الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم- وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه!فلا بد ابتداء من إقامة الميزان.. ولابد أن يكون هذا الميزان ثابتاً لا يتأرجح مع الأهواء..هذا الميزان الثابت هو ميزان الله..فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف- ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟ألا يكون جهداً ضائعاً، وعبثاً هازلاً، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟!إنه لابد من الاتفاق مبدئياً على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء..لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان!وإن الإنسان ليرثي أحياناً ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفروع؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع!فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلاً في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراماً؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال.لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!وما غناء أن تنهى الناس عن الفسق مثلاً في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة- إلا في حالة الإكراه- ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله.. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام. وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله. لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله. إنما هو يتخذ أرباباً من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه، وقيمه وموازينه. والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله. إنما هما وأهل مجتمعهما طراً في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟!ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر- فضلاً عن أن يكون النهي عن الصغائر- والكبيرة الكبرى لا نهي عنها.. كبيرة الكفر بالله؛ برفض منهجه للحياة؟!إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق، مما ينفق فيه هؤلاء الطيبون جهدهم وطاقتهم واهتمامهم.. إنه- في هذه المرحلة- ليس أمر تتبع الفرعيات- مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله. فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه. فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة.. فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث.. والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات..والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان».وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقاً على الإسلام!وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر- كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر.. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع المعروف في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة.. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير.. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطاً- قد يكون ساحقاً- فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان!هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}..ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل، وهو نهاية هذا الجزء. فيصف حالهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان، فهم يتولون الذين كفروا، ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة. وعلة ذلك- مع أنهم أهل كتاب- أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير.. فهم غير مؤمنين. ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين:{ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون}..وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطبق على حالهم اليوم وغداً، وفي كل حين. كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم.. مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن..لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين؛ ويؤلبونهم على المسلمين، {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} كما حكى عنهم القرآن الكريم. وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب، ومن قبلها ومن بعدها كذلك؛ إلى اللحظة الحاضرة.. وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيراً إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين!فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك، كلما كانت المعركة مع المسلمين! حتى والمسلمون لا يمثلون الإسلام في شيء.إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين؛ ومن ينتمون إليه، ولو كانوا في انتمائهم مدعين!وصدق الله العظيم: {ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا}..{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}..فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم.. إنها سخط الله عليهم. وخلودهم في العذاب. فما أبأسها من حصيلة! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم؛ ويا لها من ثمرة مرة. ثمرة توليهم للكافرين!فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم؟ فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله: في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين؛ وأعدائه الذين يتولون الكافرين!وما الدافع؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي:{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون}..هذه هي العلة.. إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي.. إن كثرتهم فاسقة.. إنهم يتجانسون- إذن- مع الذين كفروا في الشعور والوجهة؛ فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين..وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة:الحقيقة الأولى: أن أهل الكتاب جميعاً- إلا القلة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم- غير مؤمنين بالله. لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير. ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده. بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك. {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} وهو تقرير من الله- سبحانه- لا يقبل التأويل. مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله.. وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم.والحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب جميعاً مدعوون إلى الدخول في دين الله، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإن استجابوا فقد أمنوا، وأصبحوا على دين الله. وإن تولوا فهم كما وصفهم الله.والحقيقة الثالثة: أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين، في شأن من الشئون. لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين.ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك؛ وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام؛ وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون؛ وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك. والوفاء لهم- ما وفوا- بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين.. وهم- في أية حال- لا يكرهون على شيء في أمر الدين..هذا هو الإسلام.. في وضوحه ونصاعته. وفي بره وسماحته..والله يقول الحق. وهو يهدي السبيل.
|